خطبة الجمعة 45: ظاهرة الرشوة
بسم الله الرحمان الرحيم الحمدُ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِه اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، بلَّغَ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصحَ الأُمّةَ، صلواتُ ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ )يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ حَقَّ تُق۪اتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَۖ(، )يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ اُ۪تَّقُواْ رَبَّكُمُ اُ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاٗ كَثِيراٗ وَنِسَآءٗۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ اَ۬لذِے تَسَّآءَلُونَ بِهِۦ وَالَارْحَامَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباٗۖ (، )يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاٗ سَدِيداٗ يُصْلِحْ لَكُمُۥٓ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَمَنْ يُّطِعِ اِ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًۖ (.
أما بعد عباد الله : نتحدث في هذه
الجمعة – بحول الله – عن ظاهرة الرشوة، هذه الظاهرة التي تدل على الجشع والطمع
الذي أصاب المسلمين اليوم، والتي ضَيَّعتْ كثيرا من حقوق العباد؛ فبالرشوةِ كم من
باطلٍ أصبح حقا، وكم من حقٍّ أصبح باطلا؛ كم من نفسٍ ظالمة أصبحت بها مظلومة، وكم
من نفس مظلومة أصبحت ظالمة؛ كم من كسولٍ تبوأ بها المناصب العاليةَ التي لا
يستحقها، وكم من مجتهد ضاع حقُّه في المناصب التي يستحقها؛ بالرشوة بِيعتِ
الأصواتُ والكراسي والمناصب، واشتُرِيَتْ بها الذِّمَمُ والضمائر، وبها ضاعتِ
الأمانةُ وانتشرتِ الخيانة وانتُهِكَتْ بها الحُرُمات واعتُدِيَ بها على حدود
الله.
أَيُّهَا المسلمون
والمسلمات:
إنَّ
الغارقين في هذه الظاهرة والمتعاملين بها يتحاشَوْنَ ذِكْرَهَا باسمها، ظنًّا منهم
أنهم يتحايلون على شرع الله ويخادعون الله ورسوله، لكن هم كما قال الله تعالى: )يُخَٰدِعُونَ
اَ۬للَّهَ وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يُخَٰدِعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَۖ (سورة البقرة،
الآية:8؛
ومن تسميات الرشوة في مجتمعنا اليوم، أن بعضهم يسميها "شي بركة "، وتسمى
"هدية"، وتسمى "إحسان"، وتسمى أيضا ب "الطاجين والقهوة
والتدويرة"، وغير ذلك من التسميات المعروفة...
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ والمؤمنات:
لقدِ
اتفقت الأمَمُ كلُّها وأنظمتُها جميعا، وكلُّ الشرائع والأديانِ حتى من غيرِ
الشريعة الإسلامية ودين الإسلامِ؛ على أن الرشوةَ جريمةٌ خطيرة وصاحبها مجرمٌ أخطر،
يستوجبُ العقاب؛ ولا توجدُ في الدنيا دولةٌ تُجيزُ في قوانينِها الرشوةَ مهما كانت
عقيدتها؛ ومع ذلك – وللأسفِ – فقد مرِضتْ بها أيدينا ونفوسنا، فَطَغَتْ في
معاملاتنا واختلط بها الحلال والحرام، وهذا سيعرضنا يوم القيامة لحسابٍ عسير شديد:
من أين اكتسبنا هذا المال؟ وفيما أنفقنا هذا المال.
عباد الله : إن الطامَّةَ
الكبرى أنَّ منِ ابتُلِيَ بهذا المرضِ والداءِ همُ المسلمون، والذين يعرفون جيدا
قول النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: )لعن
رسولُ الله ﷺ الراشيَ والمُرتشِيَ في الحكم( جامع الترمذي، رقم الحديث: 7449، وفي رواية أخرى
لعبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله ﷺ: )لعن
اللهُ الراشي والمُرتشِيَ والرائش( المسند لأحمد بن منيع، رقم الحديث: 9195؛
فانطلاقا من الحديثين، إن
حكم الله تعالى ورسوله على من يأخذ الرشوة "المرتشي" أو يدفعها
"الراشي" أو حتى من يتوسط لأجلها "الرائش"، واضحٌ جليٌّ، إنَّهُ
اللعنةُ والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى.
أيها
الإخوة المؤمنون: أتَحَدَّى أولئك الذين يأخذون الرشوة باسم الإحسان
أو الهدية أن يأخذها في العلن أو يرفع بها رأسه، لأنهم عندما يطلبونها أو يأخذونها
يشترطون أن تُقَدَّمَ لهم في الخفاء حتى لا يراه الناس؛ فيَا من يُسَمي الرشوة هديَّةً،
اِقرأ سيرة النبي ﷺ مع أصحابه لِتَعْلَمَ أنه ما ترك لك في الرشوة مَدْخلا؛
أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال: )اسْتَعْمَلَ رسول الله ﷺ رَجُلًا
مِن بَنِي أسْدٍ يُقَالُ له ابنُ الأُتْبِيَّةِ علَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ
قالَ:
هذا لَكُمْ وهذا أُهْدِيَ لِي،
فَقَامَ النبيُّ ﷺ علَى المِنْبَرِ ، فَحَمِدَ
اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: ما بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتي يقولُ: هذا لكَ وهذا لِي،
فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ، فَيَنْظُرَ أيُهْدَى له أمْ لا، والذي
نَفْسِي بيَدِهِ، لا يَأْتي بشيءٍ إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ
علَى رَقَبَتِهِ، إنْ كانَ بَعِيرًا له
رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ
حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ ألا هلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا(، فَقَوْلُ النبي ﷺ واضحٌ للموظَّفِ والمسؤول الذي يستغلُّ وظيفته من أجل
الرشوة، ثم يقولُ إنها مُجردُ هدية وإحسان، فليجلس في بيته فينظر أيهدى له أم لا.فاللهم قَرِّبْنا من
الحلال وأبعدْ عنا الحرام، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي علمنا بسيرة المصطفى ﷺ ما لم نعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله: لقد سمَّى القرآن الكريم الرشوة باسمها الصحيح، سمَّاها إثما
وباطلا وسُحْتا؛ قال الله تعالى: )وَلَا تَاكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم
بِالْبَٰطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَي اَ۬لْحُكَّامِ لِتَاكُلُواْ فَرِيقاٗ مِّنَ
اَمْوَٰلِ اِ۬لنَّاسِ بِالِاثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَۖ( سورة
البقرة، الآية: 178، وقال سبحانه
أيضا: )سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِۖ
( سورة
المائدة، الآية: 44.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
والمؤمنات: إن محاربة
الرشوة لا ينبغي أن يكون بمجرد الكلام، لا يكفي فيه الوعظ والإرشاد، بل لا بُدَّ
من إجراءات عملية تردعُ هؤلاء الذين يحبون أكل أموال الناس بالباطل، لا بُدَّ من
تطبيق سياسة عمر – رضي الله عنه – " من أين لك هذا "، لا بُدَّ من
التصريح بالممتلكات قبل تحمل المسؤولية والوظائف، ثم من المتابعة والمحاسبة بعدها،
لا بدَّ من عقوباتٍ شديدة تزجرُ كل من ثبت في حقه أخذ الرشوة أو دفعها أو التوسط
لأخذها ودفعها؛ وللإشارة، فإن دستورَ هذا البلد وكثيرا من خطب جلالة الملك محمد
السادس – نصره الله وأيده – تم التأكيد فيها على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
فإلى
متى نُعرِّضُ أنفسنا لِلَعنة الله ورسوله؟ وإلى متى نبيع ضمائرنا وأنفسنا بالرشوة
والحرام؟ أفيقوا -رحمكم الله-، واعلموا أن أُمَّتَكم ووطنكم لن يتقدما إلا بصلاح
أفرادها والتزامهم بالأمانة والثقة...
فاللهم ثبّتْنا على دينك وأعِنَّا على طاعتك... اللهم لك الحمد حتى
ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى ولك الحمد على كل حال.. اللهم إنا نحمد ونشكرك أن جعلتنا من عبادك المسلمبن
الموحدين، وجعلتنا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم... اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على
سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك اللهم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد
مجيد...وارض اللهم عن
الخلفاء الراشدين المهديين أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم وفق عاهل المغرب الملك محمد السادس إلى
ما تحب وترضى وارزقه البطانة الصالحة المصلحة التي تعينه على ما كلفته به من أمور
المسلمين وأَرِهِ الحق حقا وارزقه اتباعه وأَرِه الباطل باطلا وارزقه اجتنابه، وشُدَّ أزره بولي عهده
المولى الحسن
وبأخيه المولى الرشيد.
اللهم أصلح أطفالنا وشبابنا وشيوخنا ورجالنا
ونساءنا وأساتذتنا وعلماءنا وقضاتنا وكلَّ من وليته أمرا من أمور المسلمين واهدنا
جميعا إلى طريق الخير والفلاح والصلاح.... اللهم اجعل بلدنا هذا بلدًا رخاءً آمنًا من كل
سوء وكيدٍ وكلَّ بلادِ المسلمين، وانصر اللهم الإسلام والمسلمين في كل مكان يارب
العالمين.
اللهم إنَّا ندعوك في أحسن الأيام عندك وهو يوم
الجمعة وفي
أحبِّ البيوتِ إليك وهو بيتك الكريم ، اللهم مَنْ كان من الحاضرين له طلبٌ فاقْضِهِ له .. ومن كان مريضا فاشْفِهِ
.. ومن كان مبتلىً فَعَافِهِ .. ومن كان مدينًا فاقضِ عنه دينه... اللهم ارحمْ موتانا
وموتى المسلمين وألحقنا بهم مسلمين موحدين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين...
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار... سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب
العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق