خطبة الجمعة 41: وَقَفاتٌ مَعَ بَرْدِ الشتاء
الخطبة الأولى:
بسم الله الرحمان الرحيم الحمدُ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِه اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، بلَّغَ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصحَ الأُمّةَ، صلواتُ ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ ) يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ حَقَّ تُق۪اتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَۖ (، ) يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ اُ۪تَّقُواْ رَبَّكُمُ اُ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاٗ كَثِيراٗ وَنِسَآءٗۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ اَ۬لذِے تَسَّآءَلُونَ بِهِۦ وَالَارْحَامَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباٗۖ (، )يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاٗ سَدِيداٗ يُصْلِحْ لَكُمُۥٓ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَمَنْ يُّطِعِ اِ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًۖ (.
أما بعد عباد الله: إنَّ تقلُّبَ
الزمانِ وتبَدُّلَ الأحوال من حَرٍّ إلى قَرٍّ (أي بَرْدٍ قارس)، ومن صيف إلى
شتاء؛ إنما هو بحكمة الله وتصريفه، ومن دلائل قدرته ورُبُوبِيته؛ قال الله تعالى في سورة النور: )يُقَلِّبُ اُ۬للَّهُ
اُ۬ليْلَ وَالنَّهَارَۖ إِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَعِبْرَةٗ لِّأُوْلِے اِ۬لَابْصٰ۪رِۖ
(الآية 42؛ وإننا نعيشُ
في هذه الأيامِ أشدَّ أيامِ الشِّتاء برودةً، هذا البَرْدُ القارسُ ينبغي على
المؤمن أن يَقِفَ عنده وقفةَ تَأَمُّلٍ واعتبارٍ؛ وهو موضوع خطبة اليوم إن شاء الله.
أيها المؤمنون والمؤمنات: إنَّ شِدَّةَ
بَرْدِ الشتاء الذي نعيشه ينبغي أن يُذَكِّرُنا أولا بِزَمْهَرِيرِ جهنم، أخرج الإمامان البخاري ومسلم في
صَحِيحَيْهمَا عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم: )اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقالَتْ:
رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ
ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ
مِنَ الزَّمْهَرِيرِ(،
والمراد بالزمهرير البرد الشديد والقارسُ؛ فالمؤمن المتأمل المعتبرُ عندما يَلْسَعُ البرد الشديدُ جِسمَه يُقبلُ على الله فورا بالطاعة وبالتوبة
والاستغفار من الذنوب والمعاصي، لأنه يرى في ذلك البرد الشديد أثَرًا من نَفَسِ
جهنم – كما جاء ذلك في الحديث الشريف -.
أيها
المسلمون والمسلمات: علينا أن نعلم أنَّ شِدَّةَ البرد القارسِ قد عَذَّبَ الله به قومَ عادٍ في الدنيا، قال تعالى في
سورة الحاقة: )وَأَمَّا عَادٞ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٖ صَرْصَرٍ
عَاتِيَةٖ (5) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٖ وَثَمَٰنِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماٗۖ فَتَرَى اَ۬لْقَوْمَ فِيهَا صَرْع۪يٰ كَأَنَّهُمُۥٓ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٖۖ (6) فَهَلْ تَر۪يٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَةٖۖ (7)(؛
فالريح الصَّرصَرُ هي: ريحٌ شديدةُ البرودة، سلَّطها
الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، لا تَفْتُر ولا تنقطع، فترى القوم في
تلك الليالي والأيام موتى كأنهم أصول نخل خَرِبَة متآكلةِ الأجواف، فنعوذ بالله من
عذابه في الدنيا والآخرة.
أخوة الإسلام: لا بُدَّ من الحَذَرِ
والتَّوَقِّي مِنَ البرْدِ الشديد، وهذا من
بابِ الأخذِ بالأسباب المشروعة لحفظ النفس وَدَفْعِ الأذى عنها، بما يسره الله من
لِباسٍ أو مدفأة وغيرهما؛ قال تعالى في سورة النحل: )وَالَانْعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٞ وَمَنَٰفِعُ
وَمِنْهَا تَاكُلُونَۖ (5)(، وكان عمر بن الخطاب رضي
الله عنه إذا حضر الشتاء تَعَاهَدَ عُمَّالَهُ بهذه الوصية: ) إن الشتاء قد حضر، وهو عدوٌ فَتَأَهَّبُوا له أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ
والخِفَافِ والجوارب، واتخذوا الصوف شعارا (وهي ما يلي البدن) ودثارا (الملابس الخارجية)، فإن البرد
عدوٌ سريع دخوله، بعيد خروجه ) من كتاب لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله.
ومما ينبغي التنبيه عليه – أيها الإخوة المؤمنون
- أن بعض الناس يعمد إلى
إشعال الحطب للتدفئة والاستمتاع بها؛ فهؤلاء نحذرهم من النوم وترك النار وهي مُشْتَعِلَةٌ،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: )احْتَرَقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ علَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ،
فَحُدِّثَ بشَأْنِهِمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: إنَّ هذِه
النَّارَ إنَّما هي عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ(، وروى الإمامان البخاري ومسلم أيضا عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )لا تَتْرُكُوا النَّارَ في بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنامُونَ(.
فاللهم إنا نسألك السلامة
في الدنيا والآخرة، نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرِين،
وغفرَ الله لي ولكم ولِسائرِ المسلمين، آمين، و الحمد لله رب
العالمين.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ
للهِ ربِّ العالَمينَ، والعَاقِبةُ لِلْمُتَّقينَ، ولَا عُدْوانَ إلَّا عَلَى
الظَّالِمينَ، أَحمَدُه تَعَالَى حَمْدَ الشَّاكرينَ، وأستَغفِرُه استِغفَارَ
المُنيبِينَ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لَا شَريكَ لهُ، إِلَهُ
الأوَّلينَ والآخِرِينَ، وَقَيُّومُ يومِ الدِّينِ، وأَشهدُ أنَّ سيدنا مُحمدًا
الأَمِينَ عبدُه ورسولُه إلى العَالَمينَ، صَلواتُ اللهِ وسلامُه عَلْيهِ وعَلَى
آلِهِ وصَحبِه والتَّابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعد، عباد الله: رغم
هذا البرد القارسِ الذي حلَّ بنا فينبغي أن نعترف أننا نعيش في نِعَمٍ أَنْعَمَ بها
علينا الخالقُ سبحانه ليُخَفِّفَ عنا شِدَّةَ وضررَ وقسوةَ بردِ الشتاء؛ مثل الملابس
الثقيلة بأنواعها، والبيوت التي أُدْفِئَتْ بالعزل وأجهزة التكييف، وحتى الماءُ أصبحنا
نُدفِئه بالسَّخَّانَات؛ قال تعالى في سورة النحل التي تسمى بسورة النعم: )وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمْ سَكَناٗ
وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ اِ۬لَانْعَٰمِ بُيُوتاٗ تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ
ظَعَنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنَ اَصْوَافِهَا وَأَوْب۪ارِهَا وَأَشْع۪ارِهَآ
أَثَٰثاٗ وَمَتَٰعاً اِلَيٰ حِينٖۖ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ
ظِلَٰلاٗ وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ اَ۬لْجِبَالِ أَكْنَٰناٗ وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ اُ۬لْحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْۖ كَذَٰلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَۖ (81)(. فاحمدوا الله واشكروه بقلوبكم وألسنتكم وأعمالكم.
أخوة الإيمان: ومع هذه النعم
التي تفضل بها علينا المولى سبحانه وتعالى لنحتمي من قسوة البرد وشدته، فهل تذكرنا
من حولنا من الفقراء من أقاربَ أو جيرانٍ، أو من عموم المسلمين؟ هل تذكرنا فقيرا
ومحتاجا يَتَلَوَّى في غرفته لا يجد المدفأة أو البطانية التي تقيه شدة البرد؟ هل
تذكرنا عامل النظافة الفقيرَ والمحتاج الذي يجوب الشوارع في الفجر والليل البارد،
ولا يجدُ ما يلبسه مما يقيه من البرد؟ هل تذكرنا إخوانا لنا في الدِّينِ يفترشون
الأرض ويلتحفون السماء، مِمَّنْ هُدِّمَتْ بيوتهم أو دمرتهم الحروب؟ فقوموا - رحمكم
الله - بواجب الأخوة الدينية، وواسوهم بما تستطيعون؛ فالمصاب عظيم، والخَطْبُ جلل،
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فاللهم ارحمنا برحمتك
وأعِزَّنا بطاعتك ولا تُذِلَّنا بمعصيتك ... اللهم
إنَّا نسألك الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها
من قول وعمل ونعوذُ بك اللهم من النَّارِ وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعمل ... اللهم
لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى ولك الحمد على
كل حال..
اللهم إنا نحمد ونشكرك أن جعلتنا من عبادك المسلمبن الموحدين، وجعلتنا من أمة سيدنا محمد صلى
الله عليه وعلى آله وسلم... اللهم
صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا
محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك اللهم على سيدنا
محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في
العالمين إنك حميد مجيد...
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة
والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم وفق عاهل المغرب الملك محمد السادس إلى ما تحب وترضى
وارزقه البطانة الصالحة المصلحة التي تعينه على ما كلفته به من أمور المسلمين
وأَرِهِ الحق حقا وارزقه اتباعه وأَرِه الباطل باطلا وارزقه اجتنابه، وشُدَّ أزره بولي عهده المولى الحسن وبأخيه المولى
الرشيد.
اللهم أصلح أطفالنا وشبابنا وشيوخنا ورجالنا
ونساءنا وأساتذتنا وعلماءنا وقضاتنا وكلَّ من وليته أمرا من أمور المسلمين واهدنا
جميعا إلى طريق الخير والفلاح والصلاح.
اللهم اجعل بلدنا هذا بلدًا
رخاءً آمنًا من كل سوء وكيدٍ وكلَّ بلادِ المسلمين، وانصر اللهم الإسلام والمسلمين
في كل مكان يارب العالمين.
اللهم إنَّا ندعوك في أحسن الأيام عندك وهو يوم
الجمعة وفي
أحبِّ البيوتِ إليك وهو بيتك الكريم، اللهم مَنْ كان من الحاضرين له طلبٌ فاقْضِهِ له .. ومن كان مريضا فاشْفِهِ
.. ومن كان مبتلىً فَعَافِهِ .. ومن كان مدينًا فاقضِ عنه دينه... اللهم ارحمْ موتانا وموتى المسلمين
وألحقنا بهم مسلمين موحدين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين...
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.. ربنا
آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من اَمرنا رشدا... ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب
النار... سبحان ربك رب العزة عما
يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق