خطبة الجمعة 26: مقاصد الحج وفوائده
الخطبة الأولى:
بسم الله الرحمان الرحيم الحمدُ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه
ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِه اللهُ فلا مضِلَّ له
ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ
سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، بلَّغَ
الرسالة وأدَّى الأمانة ونصحَ الأُمّةَ، صلواتُ ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه
أجمعين؛ ) يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ
اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ حَقَّ تُق۪اتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَۖ (، ) يَٰٓأَيُّهَا
اَ۬لنَّاسُ اُ۪تَّقُواْ رَبَّكُمُ اُ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاٗ كَثِيراٗ وَنِسَآءٗۖ
وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ اَ۬لذِے تَسَّآءَلُونَ بِهِۦ وَالَارْحَامَۖ إِنَّ
اَ۬للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباٗۖ (، )يَٰٓأَيُّهَا
اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاٗ سَدِيداٗ يُصْلِحْ
لَكُمُۥٓ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَمَنْ يُّطِعِ اِ۬للَّهَ
وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًۖ (.
أما بعد عباد الله: إنَّ لِعِبَادةِ
الحجِّ وشعائرِه ومناسكِهِ فوائدُ ومقاصدُ جليلةٌ عظيمةٌ، لو أدركها المسلمون
لتسابقوا إلى الحج وما تخَلَّفوا عن أدائه عند توفر شروط الاستطاعة ؛ قال الله تعالى: )وَأَذِّن فِے اِ۬لنَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ
رِجَالاٗ وَعَلَيٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَاتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ لِّيَشْهَدُواْ
مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اُ۪سْمَ اَ۬للَّهِ فِےٓ أَيَّامٖ مَّعْلُومَٰتٍ
عَلَيٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ اِ۬لَانْعَٰمِۖ(الحج، الآيتان 25 - 26.
أيها الإخوة المؤمنون: إن الحجَّ مؤتمرٌ
إسلاميٌّ سَنويٌّ يجتمعُ فيه مئاتُ الآلافِ منَ المسلمين يأتون من مشارق الأرض
ومغاربها، تجمعُهم كلمةُ " لا إلهَ إلا الله محمدٌ
رسول الله" ؛ وهناك
يتعارفونَ ويتآلفون، ويشعرون بالأُخُوَّةِ والوحدة والتلاحم كالجسد الواحد لا تُفرقهم حدودٌ ولا لغاتٌ ولا أجناسٌ ولا طبقات...؛ هناك يُحَقِّقُونَ
قول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات، الآية 13.
أيها المؤمنون والمؤمنات: هناكَ أيضا تتجلى بحقٍّ
معنى المساواة بين المسلمين في أجْلَى صُوَرِها؛ فالحُجَّاجُ جميعُهُم - صغيرُهم وكبيرهم، غَنِيُّهم
وَفَقِيرُهُم - يخلعون الملابسَ والأزياءَ المُزَخْرَفَةَ ويلبسون لباسًا مُوَحَّدًا - لباسَ الإحرام- هو أشبَهُ ما يكونُ بِكَفَنِ الميت ، لِيَدُلَّ على أنهم كُلُّهُمْ عندَ
الله سواءٌ لا يتفاضلونَ إلا بالتَّقوى؛ وهذا ما أكده رسولنا الكريم محمدٌ ﷺ في خطبة حجة الوداع، حيث أخرج الإمام البيهقي في سننه عن جابر بن عبد
الله - رضي الله عنهما - قال: خطبنا رسول الله ﷺ خطبة الوداع فقال: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ:
إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ
لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ
عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلا بِالتَّقْوَى، إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَى
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ(.
أيها المسلمون
والمسلمات: إنَّ
الحُجَّاجَ عندَما يرفعُون أصواتهم بالتلبيةِ قائلين:"لبيك اللهمّ لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنِّعمةَ لك والملك
لا شريك لك"، فإنَّ هذا الموقفَ والنداءَ
يُذكرُنا بيومِ القيامةِ عندما يُنْفَخُ في الصور وتنشقُّ القبورُ ويخرجُ الناسُ
منْ قبورِهم أفواجا؛ وعندما
يقومُ الحُجَّاجُ بالوقوفِ بعرفة ففيهِ حِكمةٌ عظيمةٌ وذِكْرى
جليلة، وهي تَذَكُّرُ يومِ القيامةِ ومواقفِها المهيبة الهائلة حيث يقفُ الجميعُ
متذللينَ مفتَقِرين لخالقِهم مالكِ المُلْكِ الواحدِ القهّار؛ وفي الطَّوافِ حول الكعبة أيضا
حكمةٌ عظيمةٌ، فهو مظهرٌ منْ مظاهرِ العبوديةِ للهِ وحدَه وامتثالٌ لأمرِه لأنَّهُ
هو الذي أمرَنا بالطوافِ حولَ بيتِه المشرّف سبعة أشواطٍ ليس أقل ولا أكثر ، ومنْ
حِكَمِ الطَّوَافِ حولَ الكعبة أيضا تعظيمُ هذا البيت الذي هوَ رمزٌ لِجَمْعِ قُلُوبِ
المسلمينَ وتوحيدِها على عبادةِ الله وحده الذي يستحقُّ العبادةَ؛ وأما السعيِ بينَ الصفا والمروة ،
فأيضا فيه حِكمةٌ عظيمةٌ وهيَ إحياءُ أثرٍ منَ الآثار القديمة المباركة، حيث في
ذلك المكانِ المباركِ كانتْ هاجرُ أمُّ إسماعيل عندما تركَهَا زوجُهَا نبيُّ اللهِ
إبراهيمُ عليه الصلاةُ والسلام معَ ولدِها إسماعيل بغيرِ ماءٍ، فما زالتْ تتردَّدُ
في هذهِ البقعةِ المباركة بحثًا عنِ الماء لها ولابنها بينَ الصفا والمروة متوكلةً
على الله، حتى كشفَ اللهُ كُرْبَتَهَا وَفَرَّجَ شِدَّتَها وأخرجَ لها ماءَ زمزم
الطيب المبارك.
فاللهم إنا نسألك حسن الالتزام بشريعتك
والاقتداء بسنة نبيك، آمين، و الحمد
لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانهِ والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده
ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم
الدين
أما بعد، عباد الله: إن الحج تمرينٌ عمليٌّ للمسلم الحاجِّ على الصبر والتحمُّلِ والثبات لمواجهة مشاكل الحياة وشدائدِها؛ وهو أيضا مدرسةٌ يتعلمُ فيها الإنسانُ الإيثارَ والتضحيةَ بالنفس والمال والوقت والإحسانَ إلى الغير، وَيَتَعَوَّدُ فيها على تمثُّلِ الأخلاق الحسنة والابتعاد عن الرذائل، ويتربى فيها على مراقبة الله في كل الأعمال وعلى ذكر الله في جميع الأوقات والأحوال.
أخوة
الإيمان: لقد أباحتِ الشريعة للحاج التجارة والكسب الحلال
شريطة ألا يؤثر ذلك على أداء مناسك الحج ولا ينشغل عنها، قال الله عز وجل
: )لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ اَن تَبْتَغُواْ فَضْلاٗ
مِّن رَّبِّكُمْۖ( البقرة،الآية197؛ لذلك فموسم الحج هو فرصةٌ لِلِّقَاءِ بين التجار لِعرض
مختلف منتوجاتهم، وفرصةٌ لعقد الصفقات التجارية بعد انتهاء
مناسكه، وفرصةٌ لتبادل الخبرات والتجارب بين الناس وتحصيلِ المصالح والمنافع
المتنوعة.
أحبتي
الكرام: إن من أعظم مقاصد الحج أنه موسم عظيم من مواسم
الطاعة والعبادة، يَزِيدُ المرءَ إيماناً، ويقوي علاقة العبد بربه، ويربطه به
ارتباطاً وثيقاً؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص
بالمعاصي والسيئات، والحج أعظم موسمٍ لِلاِزدياد من الطاعات والإكثار من فعل
الخيرات؛ فمن يَسَّرَ الله له الحج هذا العام أو في
الأعوام المقبلة – إن شاء الله - فليغتنمْ هذا الموسم العظيم، وَلْيَسْتَفِدْ من
مقاصده وغاياته، ولْيَجْعَلْهُ فرصةً في طَيِّ صفحة الماضي والبدء بصفحة جديدة مع
الله، حتى تعودوا منه كيومِ وَلَدَتْكُمْ أمهاتكم؛ فقد روى الإمامان البخاري ومسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: )مَنْ حَجَّ فلمْ يَرْفُثْ ولم يفسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدتْهُ
أُمُّهُ(.
فاللهم ارزقنا
حجةً لبيتك الكريم قبل أن تقبض أرواحنا ونسألك اللهم أن تتقبل من إخواننا الذين
وفقتهم للحج هذا العام وأن تجعل حجَّهم مبرورا وسعيهم مشكورا وذنبهم مغفورا ... اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى ولك الحمد على كل حال..
اللهم إنا نحمد ونشكرك أن جعلتنا من عبادك المسلمبن الموحدين، وجعلتنا من أمة سيدنا محمد صلى
الله عليه وعلى آله وسلم... اللهم
صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا
محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك اللهم على سيدنا
محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في
العالمين إنك حميد مجيد...
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة
والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم وفق عاهل المغرب الملك محمد السادس إلى ما تحب وترضى
وارزقه البطانة الصالحة المصلحة التي تعينه على ما كلفته به من أمور المسلمين
وأَرِهِ الحق حقا وارزقه اتباعه وأَرِه الباطل باطلا وارزقه اجتنابه، وشُدَّ أزره بولي عهده المولى الحسن وبأخيه المولى
الرشيد.
اللهم أصلح أطفالنا وشبابنا وشيوخنا ورجالنا
ونساءنا وأساتذتنا وعلماءنا وقضاتنا وكلَّ من وليته أمرا من أمور المسلمين واهدنا
جميعا إلى طريق الخير والفلاح والصلاح.
اللهم اجعل بلدنا هذا بلدًا
رخاءً آمنًا من كل سوء وكيدٍ وكلَّ بلادِ المسلمين، وانصر اللهم الإسلام والمسلمين
في كل مكان يارب العالمين.
اللهم إنَّا ندعوك في أحسن الأيام عندك وهو يوم
الجمعة وفي
أحبِّ البيوتِ إليك وهو بيتك الكريم، اللهم مَنْ كان من الحاضرين له طلبٌ فاقْضِهِ له .. ومن كان مريضا فاشْفِهِ
.. ومن كان مبتلىً فَعَافِهِ .. ومن كان مدينًا فاقضِ عنه دينه...
اللهم ارحمْ موتانا وموتى المسلمين وألحقنا بهم
مسلمين موحدين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين...
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقِنا عذاب النار... سبحان
ربك رب
العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق